كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الشنقيطي:
فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلًا منهما ذو عداء وافتراس، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه.
والأصل في النهي التحريم، وبتحريم ذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير. قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود.
وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع، وأن مشهور مذهبه الكراهة، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها، والحق التحريم لما ذكرنا.
ومن ذلك الحمر الأهلية، فالتحقيق أيضاص أنها حرام، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف: لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهم، وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري، ومسلم: «حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية» وهذا صريح صراحة تامة في التحريم، ولفظ حديث أنس عندهما أيضًا: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»، وفي رواية لمسلم: «فإنها رجس من عمل الشيطان» وفي رواية له أيضًا: «فإنها رجس أو نجس».
قال مقيده- عفا الله عنه- حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لحوم الحمر الأهلية رجس. صريح في تحريم أكلها، ونجاسة لحمها، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم. والله تعالى أعلم-.
وقال الشنقيطي:
ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني رضي الله عنه قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم: فقلت يا رسول الله: أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت الحمر الأهلية فقال: «أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» اهـ.
والجوال: جمع جالة، وهي التي تأكل الجلة، وهي في الأصل البعر، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة.
قال النووي في شرح المهذب: اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث.
قال الخطابي: والبيهقي: هو حديث يختلف في إسناده. يعنون مضطربًا، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها.
وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضًا. لما رواه أحمد والترمذي من حديث جابر قال: «حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم،- يعني يوم خيبر- لحوم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطَّير» أصل حديث جابر هذا في الصحيحين كما تقدم. وهو بهذا اللفظ: بسند لا بأس به. قاله ابن حجر والشوكاني.
وقال ابن كثير في تفسيره: وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل»، وهو دليل واضح على تحريم البغال، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعًا. لصحة النصوص بتحريمها.
وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء.
فمنعها مالك- رحمه الله- في أحد القولين، وعنه أنها مكروهة، وكل من القولين صححه بعض المالكية، والتحريم أشهر عندهم.
وقال أبو حنيفة- رحمه الله- أكره لحم الخيل، وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه. وقال: لم يطلق ابو حنيفة فيها التحريم، وليست عنده كالحمار الأهلي.
وصحح عنه صاحب المحيط، وصاحب الهداية، وصاحب الذخيرة: التحيرم، وهو قول أكثر الحنفية.
وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل الأوزاعي، وأبو عبيد وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وابن عباس والحكم.
ومذهب الشافعي وأحمد- رحمهما الله تعالى- جواز أكل الخيل، وبه قال أكثر أهل العلم.
وممن قال به عبد الله بن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة، وعلقمة، والأسود، وعطاء، وشريح، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وإسحاق وأبو يوسف، ومحمد، وداود، وغيرهم.
كما نقله عنهم النووي، في شرح المهذب وسنبين- إن شاء الله- حجج الجميع وما يقتضي الدليل رجحانه.
اعلم أن من منع أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث:
أما الآية فقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] الآية. فقال: قد قال تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] فهذه للأكل. وقال: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} فهذه للركوب لا للأكل، وهذا تفصيل من خلقها وامتن بها، وأكد ذلك بأمور:
أحدها أن اللام للتعليل، أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها يقتضي خلف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير عليها، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم.
ثالثها: أن الآية الكريمة سيقت للامتنان، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان. والحكيم لا يمتن بأدنى النعم، ويترك أعلاها، لاسيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاقت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة.
وأما الحديث: فهو ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: «نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لُحُوم الخيل والبغال والحَمِير».
ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة. بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقًا، والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم المنع من الآية لما أذن في الأكل، وأيضًا آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل، بل فهم من التعليل، وحديث جابر، وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما. كلاهما صريح في جواز أكل الخيل. والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
وأيضًا فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة، فهي إنما تدل على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه، أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منهما بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز.
وأيضًا فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة. فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقًا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل.
ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: «إنا لم نخلق لهذا. إنا خلقنا للحرث» فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقًا.
وأيضًا فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة. ولا قائل بذلك.
وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها. فهو استدلال بدلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول. كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله:
أما قران اللفظ في المشهور ** فلا يساوي في سوى المذكور

وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان: فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب. فخوطبوا بما عرفوا وألفوا، ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، وشدة الحاجة إليها في القتال، بخلاف الأنعام: فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال، وللأكل.
فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه.
فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا.
وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها. سبب لفنائها وانقراضها:
فيجاب عنه: بأنه أذن في أكل الأنعام ولم تنقرض، ولو كان الخوف عن ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض، فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل.
قاله ابن حجر، وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه: فهو مردود من وجهين:
الأول: أنه ضعفه علماء الحديث. فقد قال ابن حجر في فتح الباري في باب لحوم الخيل ما نصه: وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون.
وقال النووي: في شرح المهذب واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم. على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف، وذكر أسانيد بعضهم بذلك. وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب. في غسناده صالح بن يحيى ابن المقدام بن معد يكرب. ضعفه غير واحد، وقال فيه ابن حجر في التقريب: لين. وفيه أيضًا: والده يحيى المذكور الذي هو شيخه في هذا الحديث. قال فيه في التقريب: مستور.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد. فإنه معارض بما هو أقوى منه كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل»، وفي لفظ في الصحيح: «وأذن في لحوم الخيل»، وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: «نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» متفق عليهما.
ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد، وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل، والعلم عند الله تعالى، ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط، كما قال بعض أهل العلم.
وإن الأورع الذي يخرج من ** خلافهم ولو ضعيفًا فاستبن

ومن ذلك الكلب: فإن أكله حرام عند عامة العلماء، وعن مالك قول ضعيف جدًا بالكراهة.
ولتحريمه أدلة كثيرة. منها: ما تقدم في ذي الناب من السباع. لأن الكلب سبع ذو ناب، ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه، وقد ثبت النهي عن ثمنه في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري، مقرونًا بحلوان الكاهن، ومهر البغي، وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة، وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه، بلفظ: «ثمن الكلب خبيث» الحديث.
وذلك نص في التحريم لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث} [الأعراف: 157] الآية.
فإن قيل: ما كل خبيث يحرم لما ورد في الثوم أنه خبيث، وفي كسب الحجام أنه خبيث. مع أنه لم يحرم واحد منهما.
فالجواب: أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلًا على تحريمه، وما أخرجه دليل يخرج، ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه، كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب، والسنة يخرج منها بعض الأفراد بمخصص، وتبقى حجة في الباقي. وهذا مذهب الجمهور، وإليه أشار في (مراقي السعود) بقوله:
وهو حجة لدى الأكثر إن ** مخصص له معينًا يبن

فإن قيل: تحريم الخبائث لعلة الخبث، وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضًا في العلة تخصيصًا له.
فالجواب: أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة، لا إبطال لها. قال في (مراقي السعود):
منها وجود الوصف دون الحكم ** سماه بالنقض وعاة العلم

والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح... إلخ كما حررناه في غير هذا الموضع.
ومن الأدلة على تحريم الكلب: ما ثبت في الصحيحين من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه، وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم، فلو كان أكله مباحًا، لكان اقتناؤه مباحًا.
وإنما رخص صلى الله عليه وسلم، في كلب الصيد، والزرع، والماشية للضرورة. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتخذ كلبًا إِلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط»، ومنه أيضًا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم، يقول: «من اقتنى كلبًا لا يغنى عنه زرعًا، ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط»، ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ: «نقص كل يوم من عمله قيراطان»، وأخرجه مسلم أيضًا عن ابن عمر من طرق: في بعضها قيراط، وفي بعضها قيراطان.
والأحاديث في الباب كثيرة وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله، إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل وهو ظاهر، ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن المغفل، رضي الله عنهم. من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها، ولم يرخص صلى الله عليه وسلم فيها إلا لضرورة الصيد، أو الزرع، أو الماشية.
وإذا عرفت أن في كلب الصيد، وما ذكر معه بعض المنافع المباحة، كالانتفاع بصيده، أو حراسته الماشية، أو الزرع، فاعلم أن العلماء الختلفوا في بيعه.
فمنهم من قال: بيعه تابع للحمه، ولحمه حرام، فبيعه حرام، وهذا هو أظهر الأقوال دليلًا لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث، وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه مقرونًا بحلوان الكاهن، ومهر البغي، وهو نص صحيح صريح في منع بيعه.